سورة المؤمنون - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


ولما تشوفت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم، قال: {إني جزيتهم} أي مقابلة على عملهم {اليوم بما صبروا} أي على عبادتي، ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم كما كما شغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم، فوزَهم دونكم، وهو معنى قوله: {أنهم هم} أي خاصة {الفائزون} أي الناجون الظافرون بالخير بعد الإشراف على الهلكة، وغير العبارة لإفادة الاختصاص والوضوح والرسوخ، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف.
ولما كان الفائز- وهو الظافر- من لم يحصل له بؤس في ذلك الأمر الذي فاز به، وكان قد أشار سبحانه بحرف الغاية وما شاكله إلى أنه مد لأهل الشقاء في الدنيا في الأعمار والأرزاق حتى استهانوا بعبادة السعداء، فكان ربما قيل: إن أعداءهم فازوا بالاستهزاء بهم والرفعة عليهم في حال الدنيا، وكان سبحانه قد أسلف ما يرد ذلك من الإخبار بأنه خلدهم في النار وأعرض عنهم وزجرهم عن كلامه، وكان أنعم أهل الدنيا إذا غمس في النار غمسة ثم سئل عن نعيمه قال: ما رأيت نعيماً قط، فكان ذلك محزاً لتقريع الأشقياء بسبب تضيع أيامهم وتنديمهم عليها. تشوف السامع إلى أنه هل يسألهم عن تنعيمه لهم في الدنيا الذي كان جديراً منهم بالشكر فقابلوه بالكفر والاستهزاء بأوليائه؟ فأجاب تشوفه ذلك مجهلاً لهم ومندماً ومنبهاً على الجواب أن فوزهم في الدنيا- لقلته التي هي أحقر من قطرة في جنب بحر- عدم، بقوله: {قال} تأسيفاً على ما أضاعوا من عبادة يسيرة تؤرثهم سعادة لا انقضاء لها وارتكبوا من لذة قليلة أعقبتهم بؤساً لا آخر له- هذا على قراءة الجماعة، وبين سبحانه بقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي أن القول بواسطة بعض عباده الذين أقامهم لتعذيبهم إعراضاً عنهم تحقيقاً لما أشار إليه {ولا تكلمون} فقال: {قل} أي يا من أقمناه للانتقام ممن أردنا أي لهؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا على ما يرون من قصر مدتها ولعبها بأهلها فكفروا بنا واستهزؤوا بعبادنا: {كم لبثتم في الأرض} على تلك الحال التي كنتم تعدونها فوزاً {عدد سنين} أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، ولعله عبر بما منه الإسنات الذي معناه القحط إشارة إلى أن أيام الدنيا ضيقة حرجة وإن كان فيها سعة، ولا سيما للكفرة بكفرهم وخبثهم ومكرهم الذي جرهم إلى أضيق الضيق وأسوأ العيش {قالوا} استقصاراً له في جنب ما رأوا من العذاب واستنقاذاً لأنفسهم ظناً أن مدة لبثهم في النار تكون بمقدار مكثهم في الدنيا: {لبثنا يوماً} ولعلهم ذكروا العامل تلذذاً بطول الخطاب، أو تصريحاً بالمراد دفعاً للبس والارتياب، ثم زادوا في التقليل فقالوا: {أو بعض يوم}.
ولما كان المكرة في الدنيا إذا أرادوا تمشية كذبهم قالوا لمن أخبروه فتوقف في خبرهم: سل فلاناً، إيثاقاً بإخبارهم، وستراً لعوارهم، جروا على ذلك تمادياً منهم في الجهل بالعليم القدير في قولهم: {فاسأل} أي لتعلم صدق خبرنا أو بسبب ترددنا في العلم بحقيقة الحال لتحرير حقيقة المدة {العادين} ويحتمل أيضاً قصد الترقيق عليهم بالإشارة إلى أن ما هم فيه من العذاب شاغل لهم عن أن يتصوروا شيئاً حاضراً محسوساً، فضلاً عن أن يكون ماضياً، فضلاً عن أن يكون فكرياً، فكيف إن كان حساباً.


ولما كان ذلك على تقدير تسليمه لا ينفعهم لأن الجزاء بالعذاب على عزمهم على التمادي في العناد على مرّ الآباد، المصدق منهم بالانهماك في الفساد، أجابهم إلى قصدهم في عدهم بعبارة صالحة صادقة على مدة لبثهم طال أو قصر، بقوله على طريق الاستئناف لمن تشوف إلى معرفة جوابهم: {قال} أي الله على قراءة الجماعة، وبينت قراءة حمزة والكسائي أن إسناد القول إليه سبحانه مجاز عن قول بعض عباده العظماء فقال على طريق الأول: {قل} أي لهؤلاء الذين وقع الإعراض عنهم {إن} أي ما {لبثتم} أي في الدنيا {إلا قليلاً} أي هو من القلة بحيث لا يسمى بل هو عدم {لو أنكم كنتم} أي كوناً هو كالجبلة {تعلمون} أي في عداد من يعلم في ذلك الوقت، لما آثرثم الفاني على الباقي، ولأقبلتم على ما ينفعكم، وتركتم الخلاعة التي لا يرضاها عاقل، ولا يكون على تقدير الرضا بفعلها إلا بعد الفراغ من المهم، ولكنكم كنتم في عداد البهائم، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين الذين هم الوارثون على الشكر على ما منحهم من السرور بإهلاك أعدائهم وإيراثهم أرضهم وديارهم، مع إعزازهم والبركة في أعمارهم، بعد إراحتهم منهم في الدنيا، ثم بإدامة سعادتهم في الآخرة وشقاوة أعدائهم.
ولما كان حالهم في ظنهم أن لا بعث، حتى اشتغلوا بالفرح، والبطر والمرح، والاستهزاء بأهل الله، حال من يظن العبث على الله الملك الحق المبين، سبب عن ذلك عطفاً على قوله: {فاتخذتموهم سخرياً} إنكاره عليهم في قوله: {أفحسبتم} ويجوز أن يكون معطوفاً على مقدر نحو: أحسبتم أنا نهملكم فلا ننصف مظلومكم من ظالمكم، فحسبتم {أنما خلقناكم} أي على ما لنا من العظمة {عبثاً} أي عابثين أو للعبث منا أو منكم، لا لحكمة إظهار العدل والفضل، حتى اشغلتم بظلم أنفسكم وغيركم؛ قال أبو حيان: والعبث: اللب الخالي عن فائدة. {وأنكم} أي وحسبتم أنكم {إلينا} أي خاصة {لا ترجعون} بوجه من الوجوه لإظهار القدرة والعظمة في الفصل، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو يعلى الموصلي في الجزء الرابع والعشرين من مسنده والبغوي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رقى رجلاً مصاباً بهذه الآية إلى آخر السورة في أذنيه فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال» وفي سندهما ابن لهيعة. قال ابن كثير: وروى أبو نعيم عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث عن أبيه رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا {أفحسبتم} الآية، قال: فقرأناها فغنمنا وسلمنا.
ولما كان التقدير: ليس الأمر كما حسبتم، علل ذلك بقوله: {فتعالى الله} أي علا الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث؛ ثم وصفه بما ينافي العبث فقال: {الملك} أي المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة، وحفظاً ورعاية.
ولما كان بعض ملوك الدنيا قد يفعل ما ينافي شيم الملوك من العبث بما فيه من الباطل، أتبع ذلك بصفة تنزهه عنه فقال: {الحق}.
أي الذي لا تطرق للباطل إليه في شيء من ذاته ولا صفاته، فلا زوال له ولا لملكه فأنّى يأتيه العبث.
ولما كان الحق من حيث هو قد يكون له ثان. نفى ذلك في حقه تعالى بقوله: {لا إله إلا هو} فلا يوجد له نظير أصلاً في ذات ولا صفة، ومن يكون كذلك يكون حائزاً لجميع أوصاف الكمال، وخلال الجلال والجمال، متعالياً عن سمات النقص، والعبث من أدنى صفات النقص، لخلوه عن الحكمة التي هي أساس الكمال؛ ثم زاد في التعيين والتأكيد للتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره فقال: {رب العرش} أي السرير المحيط بجميع الكائنات، العالي عليها علواً لا يدانيه شيء؛ ثم وصف العرش لأنه في سياق الحكم بالعدل والتنزه عن العبث بخلاف سياق براءة والنمل فإنه للقهر والجبروت بقوله: {الكريم} أي الذي تنزل منه الخيرات الحاصلة للعباد، مع شرف جوهره، وعلى رتبته، ومدحه أبلغ مدح لصاحبه، والكريم من ستر مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها وتنزه عن كل دناءة؛ قال القزاز: وأصل الكرم في اللغة الفضل والرفعة. ولما كان التقدير: فمن دعا الله وحده فأولئك هم المفلحون الوارثون في الدارين، عطف عليه قوله: {ومن يدع مع الله} أي الملك الذي كفوء له لإحاطته بجميع صفات الكمال {إلهاً} ولما كانوا لتعنتهم ينسبون الداعي له سبحانه باسمين أو أكثر إلى الشرك، قيد بقوله: {آخر} ثم أيقظ من سنة الغفلة، ونبه على الاجتهاد والنظر في أيام المهلة، بقول لا أعدل منه ولا أنصف فقال: {لا برهان له} ولما كان المراد ما يسمى برهاناً ولو على أدنى الوجوه الكافية، عبر بالباء سلوكاً لغاية الإنصاف دون على المفهمة للاستعلاء بغاية البيان فقال: {به} أي بسبب دعائه فإنه إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد، بل وجد البراهين كلها قائمة على نفي ذلك، داعية إلى الفلاح باعتقاد التوحيد والصلاح، هذا المراد، لا أنه يجوز أن يقوم على شيء غيره برهان {فإنما حسابه} أي جزاؤه الذي لا تمكن زيادته ولا نقصه {عند ربه} الذي رباه، ولم يربه أحد سواه، وغمره بالإحسان، ولم يحسن إليه أحد غيره، الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته منه نفسه، فلا يخفى عليه شيء من أمره.
ولما أفهم كون حسابه عند هذا المحسن أحد أمرين: إما الصفح بدوام الإحسان، وإما الخسران بسبب الكفران، قال على طريق الجواب لمن يسأل عن ذلك: {إنه لا يفلح} ووضع {الكافرون} موضع ضميره تنبيهاً على كفره وتعميماً للحكم، فصار أول السورة وآخرها مفهماً لأن الفلاح مختص به المؤمنون.
ولما كان الأمر كذلك، أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد في إنقاذ عباده حتى بالدعاء لله في إصلاحهم ليكون الختم بالرحمة للمؤمنين، كما كان الافتتاح بفلاحهم، فقال عاطفاً على قوله: {ادفع بالتي هي أحسن} فإنه لا إحسان أحسن من الغفران، أو على معنى {قال كم لبثتم} الذي بينته قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي بالأمر: {وقل} أو يكون التقدير: فأخلص العبادة له {وقل} لأجل أن أحداً لا يقدره حق قدره: {رب} أيها المحسن إليّ {اغفر وارحم} أي أكثر من تعليق هاتين الصفتين في أمتي لتكثرها، فإن في ذلك شرفاً لي ولهم، فأنت خير الغافرين {وأنت خير الرّاحمين} فَمنْ رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة، فكان من المؤمنين، فكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن، وخيبة كل كافر، نسأل الله تعالى أن يكون لنا أرحم راحم وخير غافر، إنه المتولي للسرائر، والمرجو لإصلاح الضمائر- آمين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8